ترجمة
محمد سيد عبد الرحيم
أشار الكندي (ت القرن العاشر الميلادي) إلى ظهور مجموعة صغيرة بالإسكندرية في مصر في القرن التاسع، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وكانوا يُسمّون بالمتصوّفة. ويقول المسعودي في كتابه (مروج الذهب) أنّ المتصوّفة ظهروا خلال حكم الخليفة المأمون، ويُشير أبو القاسم القشيري إلى أنّ المتصوّفة ظهروا في القرن التاسع؛ أي بعد قرنين تقريبًا من وفاة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهنا يبرز السؤال؛ لماذا أخذ الناس وقتًا طويلا حتى أبدوا اهتمامًا بالعلوم الباطنيّة؟ وربما نفهم السبب إذا ما ألقينا نظرة موجزة على تاريخ الإسلام في بدايته.
دعونا ننتقل إلى الجزيرة العربيّة في بداية القرن السابع الميلادي، سنجد مجتمعًا مفكّكًا مكوّنًا من القبائل العربيّة التي قد انغمست منذ قرون عديدة في تأسيس تقليد صراعي، بالإضافة إلى عبادة الأوثان وقيم قبليّة أخرى. ورغم أنّ العرب كانوا -في هذا الوقت- منغمسين في التجارة مع مَنْ هم خارج الجزيرة العربيّة، ولكنهم لم يتأثروا فعليًّا بالثقافات الأخرى التي احتكّوا بها، وذلك رغم اصطدامهم المباشر مع الإمبراطوريّة البيزنطيّة وغزو نبوخذ نصر للجزيرة العربيّة؛ ولهذا نجدهم -ولقرون طويلة- يمارسون طريقة حياتهم الصارمة، والتي تظهر تقاليدهم البدويّة بلا أي تغيير حاسم، وفجأة يظهر لهم نور نبوي معجِز، هذا النور بدأ يُغيّر حياتهم، بل ويدمّر الوحشيّة والظلم المتأصّل في مجتمعاتهم.
كان محمد -صلّى الله عليه وسلّم- هو ذلك الشخص العظيم الذي أتى بهذا النور الجديد من المعرفة، ولمدة ثلاثة وعشرين عامًا أكد محمد -صلّى الله عليه وسلّم- على الحقيقة الأزليّة، وهي أنّ الإنسان قد وُلد في هذا العالم من أجل أن يتعلّم حكمة الخالق خلال رحلته للعودة إلى الأصل؛ الخالق الواحد، ورغم أنّ الإنسان حرّ في جوهره إلا أنّه مكلّف ومقيّد بالشريعة الظاهرة التي تحكم الوجود.
تحدّث محمد -صلّى الله عليه وسلم- بالحقيقة الأزليّة التي حدّثنا عنها الآلاف من الأنبياء من قبله، حدّثنا عنها بلغة معاصرة للغة أرضه، لغة كانت أرقى إنجاز ثقافي وصل إليه هؤلاء الناس، وشرح الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- الحقيقة الأزليّة لأناس قد انغمسوا في ظلام ووحشيّة وجهل لقرون، وبعد سنين من الجهد، استطاع أن يجمع حفنة من المؤيّدين، معظمهم اضطهِدوا وأُجبروا على الهرب إلى أثيوبيا للبحث عن الحماية تحت حكم حاكم مسيحي يُدعى النجاشي، بعدها، سافروا من مكة إلى المدينة في عام 622ميلادية -حيث يبدأ التقويم الإسلامي، وهذا هو الحدث الذي يُعرف بالهجرة- حيث أنشأ محمد -صلّى الله عليه وسلّم- مجتمعًا جديدًا من أناس من مختلف بقاع الجزيرة العربيّة، ولكن الأكثريّة كانت من مكة والمدينة، ولقد كانت وجهة هذا المجتمع في الصلاة لله تعالى هي الكعبة؛ وهي مبنى مكعب الشكل مبنيّ من الحجارة، أسّسه النّبي إبراهيم بمكة، ولكن التوجه اليومي إليه كان بأمر من الرسول صلى الله عليه وسلم. اتّبعوا هذا الرسول صلى الله عليه وسلم وتعاليمه وتفسيره للأوامر القرآنيّة التي أَوحى الله بها، متجهين باطنيًّا إلى خالقهم، انغمسوا في عبادة الله واتباع رسوله صلّى الله عليه وسلّم الذي عاش بمعرفة وحب الله سبحانه وتعالى.
على مشارف نهاية حياة محمد -صلّى الله عليه وسلم- أسرعت الحوادث في الوقوع، خاصّة خلال السنوات الثلاث الأخيرة من حياته، فخلال تلك الفترة رأى الآلاف من البدو -الذين كان لديهم نزوع نحو القوة والنصر السائدان- أنّ الإسلام يُسيطر على أراضيهم أكثر فأكثر، وبناء عليه احتضن الآلاف منهم الإسلام أكثر فأكثر، وعندما مات محمد -صلّى الله عليه وسلّم- عانى المجتمع الإسلامي الناشئ صدمة عظيمة أدّت إلى انتخاب متسرّع ومتشنّج لأبي بكر كزعيم أول لهذا المجتمع.
لقد حدّد الرسول محمد -صلّى الله عليه وسلّم- في مناسبات مختلفة إلى مَنْ يرجع المسلمون في شؤونهم الدينيّة بعد موته، فعندما يوشك أحد الأطباء على السفر أو الاستقالة أو التقاعد عليه -كمسؤول- أن يُرشد مرضاه لـمَنْ يلجؤون في غيابه، فالطبيب -بطبيعة الحال- يُدرك جديًّا حالة مرضاه أفضل من أيّ شخص آخر؛ ولذا كان من الطبيعي لزعيم روحي مثل الرسول محمد -صلّى الله عليه وسلّم- أن يُشير إلى مَنْ هو أفضل وأنفع لإدارة شؤون الأمّة بعد وفاته وفقًا للشريعة الإلهيّة التي أُوحي بها. على أيّة حال، نشأ خلاف حول ما إذا كان الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- قد حدّد -على وجه التحديد- الإمام علي كخليفة له، أم أنّه قد أشار -فقط- إلى أنّه أفضلهم علمًا وخلقًا. المحصلة أنَّه قبل حتى أن يُدفن الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- بدأ العرب يتحزّبون من أجل السلطة؛ فالمدنيّون مثلا كانوا يريدون أن يختاروا واحدًا منهم كزعيم لهم، ولكن بآخر لحظة، استطاع اثنان من أقرب الصحابة إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم -أبا بكر وعمر- أن يُوحّدا الحزبين، وبمساعدة عمر اختار المسلمون أبا بكر زعيمًا للأمَّة الإسلاميَّة؛ لكونه الأكبر سنًّا والأكثر احترامًا من قِبل الجميع، والمعترف له أنّه أكثر الصحابة قربًا إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
استمرت زعامة أبي بكر لعامين، كانت فترة مليئة بالصراعات الداخليّة، فالنّفس العربيّة لا ترضى بالخضوع بأي حال من الأحوال، فهم يُفضّلون أن يكون عقلهم متحرّرًا من أيّ قيد؛ ومن هذه القيود التي أثارتهم الخضوع لدفع ضريبة إجباريّة لشخص آخر. إنّ دفع الزكاة الإسلاميّة التي فرضها أبو بكر بالقوة على الذين رفضوا أن يدفعوها، فسّرها البعض كنوع من القهر الذي لم يرضوا أن يخضعوا له، ففجأة وجدت معظم العشائر التي انضمت مؤخّرًا إلى الحركة الإسلاميّة أنّ عليها أن تدفع لشخص آخر جزءًا من أموالها بدلا من أن تستفيد من المكاسب التي تجنيها، وقد أدّى ذلك إلى حالة من الشقاق في الأمّة الإسلاميّة التي كانت تتّسع رقعتها بسرعة، وظهر -بالإضافة إلى ذلك- مدَّعون زائفون للنبوّة، وبهذا قضى أبو بكر معظم فترة زعامته محاولا قمع الصراعات الداخليَّة.
بعد موت أبي بكر عام 634أصبح عمر -الذي اختير بواسطة أبي بكر كخليفة له- الزعيم التالي للأمَّة الإسلاميَّة، وخلال عشر سنوات من ولايته توسّع الإسلام فاتحًا مناطق جديدة وبعيدة؛ فغزا المسلمون الإمبراطوريّة المصريّة والفارسيّة والبيزنطيّة، بالإضافة إلى القدس التي تسلّم عمر بنفسه مفاتيحها من المسيحيين. كان عمر نموذجًا للبساطة، وقد اغتيل اغتيالا مأسويًّا على يد عبد فارسي أثناء صلاته في المسجد عام 644.
كان عثمان الخليفة التالي لعمر؛ والذي اختير بواسطة مجموعة من الناس كان عمر قد اختارهم ليختاروا الخليفة من بعده. جاء عثمان من عشيرة بني أميّة، وقد كان بعضهم من ألدّ أعداء الرسول صلّى الله عليه وسلّم. لقد اعتنق الكثير من الأمويين الإسلام بعد فتح الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- والمؤمنين به مكة، وعندما تأكد الأمويون أنّه لا يوجد لديهم أيّ خيار آخر، قبلوا الإسلام على مضض، واستمروا في العيش بنفس النّهج الذي كانوا يعيشون به في الماضي. لم يكن عثمان مهتمًّا بالأمور الدنيويّة، لكنّه سمح للكثير من عشيرته أن يعيشوا كما يرغبون، ولقد عيّن الكثير من بني أمية بوظائف رئيسيّة في الحكم بالأراضي الجديدة التي فتحها المسلمون، وبناء على ذلك اتهمه البعض بمحاباة الأقارب. في أول ستة سنوات من خلافته استمر التوسع الإسلامي، وأيضًا استمر الحفاظ على الأراضي التي تم فتحها. في الواقع، كانت تلك المرحلة بداية تغيّر الحُكّام إلى حُكّام جشعين بدلا من استمرار سمات الحكم الإسلامي مع حكام يتحلّون بالمعرفة الروحيّة والتّقوى.
وخلال خلافة عثمان -والتي استمرت لاثني عشر عامًا- تراجع عدد كبير من المسلمين إلى ما قبل الإسلام من جاهليّة وخرافات وقبليّة. كانت الغنائم القادمة من الإمبراطوريّة الفارسيّة والبيزنطيّة والمصريّة تصبّ بمكة والمدينة، وقد أدّى ذلك إلى حقبة زمنيّة من الاضمحلال والعبث بسبب الثراء الفاحش، في هذه الحقبة بدأوا في إنشاء الدور والقصور الكبيرة. أحد البنّائين في هذا الوقت واسمه أبو لؤلؤة، هو نفسه العبد الفارسي الذي قتل عمر بن الخطاب؛ لأنّ عمر فرض عليه -مع جملة الآخرين- أن يؤدي الزكاة. أثناء خلافة عمر كانت الدور دائمًا ما تتكون من قطعة من الأرض مربعة وصغيرة، حيث يُبنى عليها غرفتين أو ثلاث، تكون ساحة الدار في إحدى جوانب هذه الغرف، وفي وسط رقعة الأرض هذه تكون البئر، وفي أحد الأركان يكون الصهريج لتخزين الحبوب، كانت الدار تُبنى بمستوى واحد فقط، لكن خلال خلافة عثمان بُنيت الكثير من القصور، وبدأ الناس يتنافسون مع بعضهم البعض لإنشاء دور أعظم.
بعد مقتل عثمان بن عفان عام 656 -بينما كان يقرأ القرآن- اختار الكثير من الناس الإمام علي بن أبي طالب كخليفة تالٍ للمسلمين، واستمر حكمه لمدة ست سنوات امتلأت بالنّزاعات الداخليّة والحروب. في ذلك الوقت، كان الكثير من الناس يقولون عن أنفسهم أنّهم مسلمون رغم أنّهم لا يعرفون أو يفقهون شيئًا عن السنّة المحمديّة؛ فنجد -مثلا- مسلمين يُقسمون بالمصحف، لكنّهم يفعلون عكس ما أقسموا عليه. في عام 656حدث أول قسم جماعي كاذب. كان الرسول قد حذّر زوجته عائشة أنّها ستجد نفسها في يوم ما تحارب مع الجانب الباغي، وحينها ستقوم بالضيم الأكبر في مكان يُدعى الحوأب، وأنّها ستعرف المكان عندما ينبح كلاب الحوأب عليها. بعدها بسنوات، بينما كانت تمر عبر هذا المكان متجهة إلى معركة الجمل لتحارب الإمام علي، سمعت نباح الكلاب، فتذكّرت تحذير الرسول، فسألت عن اسم هذا المكان فقيل لها أنّ اسمه الحوأب، لكنّ بعض أتباعها أحضروا أربعين شخصًا زاعمين أنّهم مسلمون ليقسموا لها كذبًا على القرآن بأنّ هذا المكان لم يكن اسمه الحوأب، ومرة أخرى خلال معركة صفّين عام 657حدثت حادثة أخرى أقسم فيها بعضهم كذبًا.
بعد استشهاد الإمام علي عام 661، حيث طعن طعنة قاتلة أثناء سجوده في الصلاة، كان ابنه الإمام حسن في موقع استحقاق كي يصبح الخليفة الجديد للمسلمين، لكن معاوية -الحاكم الأموي لسوريا- الذي كان يحاول أن يؤمّن موقع الحكم لنفسه ولعشيرته، بدأ يُحرّض الناس على الإمام حسن. كان لدى الإمام حسن جيش كبير تحت تصرفه، وكان أيضًا يعرف نقاط ضعف أمّته، وفوق ذلك لم يكن يريد أن يختلف أي اختلاف مع جيشه، ناهيك عن إدراكه لبراعة وغدر معاوية، وبالتأكيد لم يكن يرغب في مشاهدة دماء المسلمين تُراق عبثًا، وبناء على ذلك قَبِلَ الهدنة التي عرضها عليه معاوية، وعلى أساسها توقف عن المطالبة بزعامته للمسلمين، ولكنّه لم يتخلّ عن موقعه كزعيم روحي جليل، تمامًا كالإمام علي، الذي لم يقرّر -فقط- الابتعاد عندما لم يُخْتَر كأول خليفة للمسلمين، ولكنّه حاول بكل قواه أن يُعدِّل الباطل -الذي حدث خلال حكم أسلافه- بالحق؛ لذا لم يكن بيد الإمام حسن بديلا عن قبول الوضع؛ فبرغم أفضليّته على كل الأمّة حينئذ، لكنّه لم يستطع أن يكون خليفة للمسلمين. إنّ موافقته على هذه الهدنة لم يكن تخلّيًا عن قيادته الروحيّة، لكنّها أكبر دليل عليها، فلم يكن ممكنًا أن يُترجم عظمته الروحيّة إلى منصب رجل الدولة الدنيويّ دون أن يجعل المسلمين يقتلون بعضهم البعض؛ ولهذا كان البديل الوحيد هو قبول شروط الهدنة، والتي نصّت -إضافة لما سبق- على أنّ أخاه الإمام حسين سيكون الخليفة التالي للمسلمين، ولقد نكث معاوية بكل شروط المعاهدة ببراعة بعد مقتل الحسن عام 661، وعيّن ابنه الفاسد يزيد خليفة له، مما أدى بالإمام حسين إلى الثورة على كلٍّ من معاوية وابنه يزيد.
لقد دعا ساكنو الكوفة بالعراق الإمام حسين إلى الانضمام لهم، وقد وعدوه بمساندة قويّة ضدّ معاوية. وكان الكوفيّون يمثلون مجتمعًا جديدًا ذا مكاسب تجاريّة ضئيلة مقارنة بسكان مدينتي مكّة والمدينة. وقد أصبحت مكّة -في ذلك الحين- مركزًا هامًّا لإنتاج الخمر والموسيقى والراقصات. فلقد كان لدى العرب -في عصور ما قبل الإسلام- عاهرات مكرّمات؛ حيث كُنّ يجلسن على كرسيّ مقارب لكرسيّ الحاكم العربي، بل وزيادة على ذلك قد يقومون بتقديم النصيحة للحاكم نفسه، ولقد أُعيد أحياء هذا التقليد في عهد معاوية، ورغم أنّ الكوفة كانت مدينة جديدة ذات مجتمع جديد، إلا أنّ بعض سكانها قد عادوا مرة أخرى إلى السنن القديمة التي كانت موجودة قبل الإسلام، رغم عدم انتمائهم إلى تقاليد الصحراء وجاهليّة البدو الرُّحَّل. رغم كل هذا، أعرب الآلاف من الكوفيّين الأشداء عن مساندتهم للإمام حسين، وأرادوه زعيمًا لهم، وبناء على ذلك، اتجه الإمام حسين إلى الكوفة كي يستكمل زعامته الدينيّة بزعامته الدنيويّة.
بينما كان الإمام حسين بمنتصف الطريق إلى الكوفة، وصلته أنباء أنّ رسله قد قُتلوا بأيدي جنود يزيد بن معاوية، لكنّه لم يكن يملك أيّ بدائل سوى مواصلة الرحلة. اعترضته قوات يزيد، وأصرّت أن يعترف بزعامة يزيد الذي كان معروفًا عنه أنّه سكير وأنّه يستهزئ جهرًا بالشرائع الإسلاميّة. فلم يكن لدى الإمام حسين بديلا عن الحرب ضدّ هذه الخيانة وهذا الإفساد للإسلام، وقد استشهد في هذه المعركة -معركة كربلاء- سبعة وعشرون فردًا من آل الإمام الحسين؛ منهم رضع وأطفال ماتوا من العطش أو من قسي أعدائهم. في النهاية، استشهد الإمام حسين وقُطعت رأسه، ومَنْ نجا من آله سُحبوا مقيّدين، وأُجبروا على السير -عبر الصحراء الحارقة- حتى دمشق، حيث قُدّموا إلى محكمة يزيد.
تُمثّل معركة كربلاء 661م نقطة هامة وفاصلة في تاريخ الإسلام؛ فلقد سطعت ومضت كعبرة عظيمة لهؤلاء المسلمين الذين هجروا الطريق الوحيد للإسلام كي يعودوا إليه مرة أخرى، فالطريقة التي أُعيد بها إحياء الإسلام بعد موت الإمام حسين أكّدت للكثير من الخلق الحاجة الملحّة لإتباع قائد روحي، وليس الاعتماد فحسب على الحكم الدنيوي للملوك الجشعين، وأن يقدّروا كذلك سيادة الله على الأرض بإتباع خطى محمد صلّى الله عليه وسلم، إضافة إلى ذلك، أكّدت للناس أنّ الشخص المختار كحاكم مؤقت يجب أن يكون الأفضل روحيًّا؛ فعليه أن يكون الأكثر تطورًا من حيث الوعي والتقوى والتواضع والقرب إلى الناس كي ينهض بهم، وليس مجرد حاكم عليهم بينما يعيش هو في ترف ورفاهية وطغيان.
تأصّلت في ذلك الوقت كل الأعراف والعادات التي يقوم بها المسلمون حتى الآن، وبمرور سبعين سنة على وفاة محمد -صلّى الله عليه وسلّم- تم تجاهل معظم مبادئ وتعاليم الإسلام الأساسيّة من قِبَل مَنْ يدّعون الإسلام، ورغم ذلك وُجد مَنْ كانوا يُجسدون ويفهمون هذه التعاليم النبيلة؛ ولذا فكثير من هذه العادات والتقاليد الوثنيّة التي نراها في مسلمي الحاضر لم تأتِ من تعاليم الإسلام الأصيلة، بل يمكن تقصّي أصلها في فترة حكم بني أميّة الفاسدة تلك، رغم أنّ محمدًا -صلّى الله عليه وسلّم- قد حظر حكم سلالة واحدة. في هذه الحقبة، ظهر الفصل بين الرجال والنساء ساكني البيت الواحد في دمشق. فقد ظهر نزوع الرجال بأن يحظوا بالراقصات في دورهم؛ فبنوا لنساء البيت مساكن منفصلة كي يفصلوهن عن مساكن الرجال، ولم يكن هذا الفصل موجودًا في دور المسلمين من قبل. كانت المساجد مركزًا للمجتمع حيث يتقابل العامة، وحيث مركز الحراك الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وبالتأكيد كانت مكانًا للعبادة، ولكنّها انحصرت في تلك الفترة على الوظيفة الأخيرة فقط، فأصبح المسجد مكانًا لإقامة الشعائر فقط، وفقد بذلك مكانته المحوريّة في حياة المجتمع الإسلامي. أصبح الخليفة أكثر بدانة ودائم السكر والإقامة بقصره، وبالتالي أصبح القصر مركز الحكم ونشاط الحكومة، وحتى لا ينكشف فسوق الخليفة فصل النساء والأطفال عنه، وبذلك انقسم البيت وتجزّأ.
خلال فترة فساد الحكم الأموي، فُتحت الكثير من البلاد، ودخل العديد والعديد من الناس الإسلام. على أية حال، كان الحكّام -في مجملهم- أكثر ظلمًا ودنيويّة، رغم ذلك كان هنالك الكثير من المسلمين الذين جسّدوا وفهموا تعاليم الإسلام، ولكنّهم كانوا ممنوعين فعليًّا من حكم مجتمعاتهم بسبب هؤلاء الجشعين طالبي المال والسلطان. بين الحين والآخر كان يظهر حاكم فاضل كعمر بن عبد العزيز (ت 717)، الذي حكم لمدة سنتين فقط، خلال هذه الفترة أحيا عمر بن عبد العزيز التعاليم الأصيلة للرسول الكريم، ومنع الناس من لعن الإمام علي بن أبي طالب وآله على منابر المساجد. بشكل عام، كان أمثاله من الحكام استثناء في تلك الفترة.
لم يُطق المسلمون الصادقون والأتقياء الظلم والقهر السائد؛ ولذا ظهرت حركة قادها أبو مسلم الخرساني، وتعهدت بإرجاع العدل والسنن الصحيحة للإسلام، كانت حركة ثوريّة شهيرة ضد الأمويين لصالح الهاشميين وآل النبيّ صلّى الله عليه وسلم. عامّة، عندما انتصروا ووصل الحكم الأموي إلى نهايته عام 749، كان حكم المجتمع الإسلامي قد اغتصبه العباسيون بحجّة أنّهم ينتسبون إلى محمد -صلّى الله عليه وسلّم- رغم أنّ القرابة كانت بعيدة جدًا.
وبحلول عام 750نشأ حكم جديد، وفي الأعوام التالية لم يكن مستغربًا أن يأمر الخليفة بقتل بعض أعضاء أسرته حتى ينهي الصراع على الحكم، أو كي يُقصي أيّ خصم محتمل له. على سبيل المثال، فقد قتل المأمون أخيه الأمين الذي كان ينافسه على العرش العباسي، وتورطت كذلك بعض النساء في الخداع بالكواليس، بالإضافة إلى طموح الملك أن يصبح إمبراطورًا، وأن يعيش في رفاهية وترف. كان هذا هو الوضع السائد في المجتمع الإسلامي بعد مائتي عام من مجيء الإسلام. ما من شك في وجود أناس يمتلكون الحكمة والتقوى والشغف للبحث عن الحقيقة، ووجود علماء أجلاء ورجال ذوي معرفة ونور كذلك، لكن من ناحية أخرى نجد الملوك العباسيين الفاسدين والمستبدين، الذين يُسمون أنفسهم حكّامًا، ولكنّهم –بهذا الفساد- قد شوّهوا المثال المحمدي. لقد وُجدت محاولات عديدة من قبل المسلمين لوقف الخلافة الظالمة، لكن كل هذه المحاولات باءت بالفشل، فمثلا ثار زيد بن علي وآخرين على الحُكّام الظالمين، لكنّهم عُوقبوا على ذلك بالقتل.
كانت تلك هي الظروف السياسيّة الفاسدة، والتناقضات الاجتماعيّة التي أدّت إلى ظهور المتصوّفين، فالمسلمون الأتقياء يريدون أن يميّزوا أنفسهم -تحت مظلة الإسلام- عن الفئة الحاكمة وأنصارهم الدنيويّن؛ ولذا نجد أنّ الحركة الصوفيّة بدأت كنتيجة طبيعيّة للمجتمع الإسلامي الذي قبل واتّبع الحكم الفاسد بدلا من إتباع ملك الملوك -الله تعالى- عبر إتباع ممثّليه الحقيقيين على الأرض.
بدأ المسلون الواعون بالتعاليم النبويّة الحقيقيّة، وغير القادرين على تغيير الوضع الحالي، في تكريس حياتهم للصلوات وتهذيب الباطن. إنّ الإمام علي زين العابدين -ابن الإمام حسين- واحد من الأمثلة الشهيرة على ذلك. لم يستطع هؤلاء المسلمين أن يوجّهوا طاقتهم الخارجية ضدّ شرّ الإنسان، وهؤلاء هم الذين سُمّوا بعد ذلك بالمتصوّفة.
اجتمعت مجموعة أخرى حول قادة روحيّين -انحدروا من سلالة محمد صلّى الله عليه وسلّم- من أجل العودة إلى السنن الحقّة للإسلام، واجتمعوا كذلك على رفض الخلفاء والملوك الذين استمروا في حكمهم الفاسد، هؤلاء كان يُطلق عليهم (الشيعة)، والتي كانت تعني (التابعين) أو (الحزب) أو (الجماعة) أو (الأنصار).
لم يكن لقب (الإمام) قاصرًا على هاتين المجموعتين حتى تشيران إلى قائد روحي كفء ومعروف، بل أيضا في التقليد الإسلامي الشيعي، حيث أُخذ المصطلح وأَخَذ معنى يُطلق على اثني عشر شخصًا كقواد روحيين منحدرين من الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، كل قائد منهم -في حياته- يؤكد صفات واسم الإمام الذي سيخلفه. في الطرق الصوفية، يوجد لقب شبيه يُمنح لرئيس الطريقة، فيُمنح لقب (شيخ) أو (القائد الروحي) بواسطة قائد معترف به فقط.
بخلاف الشيعة الذين يرفضون إتباع الملوك والخلفاء، ويعزلون أنفسهم أيضًا، يتسامح المتصوفة مع هؤلاء الحكام، زاعمين أنّهم غير قادرين على إنكار وجودهم الفعلي، وبالتالي يجب عليهم أن يلتزموا بقوانين المجتمع وأحكامه. بشكل عام، لقد سعوا للوصول إلى النور الباطنيّ، فاتخذوا الطريق الصوفي. يُقال -من وجهة نظر المتصوف- أنّك إذا لم تستطع أن تغيّر الملوك فلتغيّر نفسك، وإذا لم تستطع أن تغيّر الحكومة، فلتغيّر نفسك الضعيفة التي تطغى عليك من الداخل.
يستطيع أي شخص أن يفعل ما فعله أول متصوف حين أراد أن يصل إلى معني الحياة الأسمى، فمن السطحية أن نقول أنّ التصوّف نشأ بعد موت الرسول محمد -صلّى الله عليه وسلّم- بمئتي عام، أو أنّ أصله نشأ من الفقراء البسطاء طيّبو القلب الذين كانوا ضمن الصحابة الأوائل للرسول. فوجهتا النظر صحيحتان وأيضًا خاطئتان. إنّ التصوف حركة بدأت تتخذ شكلا وهويّة وحجمًا عندما انحرف القائد أو الحاكم الإسلامي عن تعاليم الإسلام الأصيلة، في هذا الطور بدأ مجال التصوف يتّسع، فأصبح مجاله علامة على الحماية كما هو علامة هويّة، حيث يفرق بين المسلم الحقيقي (وهو الصوفي) والشخص الذي انحرف عن الشريعة المحمديّة الأصيلة.
لقد لاحظ الشيعة ذلك مبكّرًا، فلم يقبلوا الرأي العام السائد لمعظم المسلمين أنّ -فيما يتعلّق بالحكم الفاسد- الحاكم المستبد أفضل من الحاكم الفوضوي؛ ولذلك يحاول الشيعة -كلما أمكن- التخلّص من الحكّام الظالمين، ونتيجة لذلك كانوا يقتلون ويذبحون. وكما رأينا فقد وجّه المتصوّفة أنفسهم إلى المشاكل الباطنيّة للإنسان، وبالتالي طوّروا علم الذات. عندما سُئل الإمام الجُنيد: "متى ظهر التصوف؟" قال: "التصوّف كان حقيقة بلا اسم، لكن، في يومنا هذا، هو اسم بلا حقيقة".
أحيانًا ما نجد خلال التاريخ الحضاري للإسلام معلّمًا صوفيًّا ينهض ليستنكر -على مستوى واسع- نظام حكم انحرف عن الطريق المحمّدي الأصيل إلى درجة غير مقبولة، فالصوفي الحق لا يقبل الطريق السريّ؛ لأنّه يؤمن بالوحدة، هو شخص لا يفصل الباطن عن الظاهر، هو شخص يُميز بينهما ويُدرك أين ينتهي ذاك وأين يبدأ الآخر، هو لا يخبرنا أنّه رجل الباطن والخلوة فقط، بل -بخلاف الشائع- لم يكن المعلّمين الصوفيّين الروحانيين أبدًا منعزلين، لقد كانت لديهم بصيرة كليّة، فمن وجهة نظر الصوفيّ، إذ ما بدأت من جهة سوف تنتهي إلى الجهة الأخرى، فإذا ما بدأت بالطهارة الظاهرة سوف تنتهي إلى النهاية الأخرى؛ وهي طهارة الذات الباطنة. وإذا ما بدأت بطهارة ذاتك الباطنة سوف تنتهي إلى الاهتمام بالظاهر وبالمجتمع.
إذا كنت تريد أن تعرف لماذا هذه الشجرة كبيرة وقوية ومقاومة لهجمات الأعاصير، عليك أن تحفر عميقًا من أجل أن تعرف مدى عمق جذورها، هذا يعكس ذاك، وهذا يقتفي أثر قصة ذاك. إذا كنت تريد مقامًا ظاهريًّا قويًّا، إذا تحتاج إلى مقام باطني قوي، مثل الغليون أو السفينة الشراعيّة التي تحمل حمولة ثقيلة، فهي لن تستطيع عبور البحور الهائجة إلا إذا امتلكت سارية قويّة وشراعًا كبيرًا. في نفس الوقت، يقول المتصوفة: "كلّما انغمس المرء في المقام الدنيويّ كلّما انغمس في المقام الروحي"، وبهذا يحدث التوازن، لا تستطيع الحصول على واحد منهما دون الآخر، وهذا هو المعنى وراء المقولة التي تقول أنّ مَنْ يبتغي الحياة الدنيويّة يبتغي -في الحقيقة- الحياة الروحيّة كذلك، لكنّه غير واعٍ بذلك. إنّ الشخص الجشع يحتاج إلى الأمان، غير أنّ الأمان الأقصى الحقيقي هو في اليقين والرضا الباطني، فإذا بحث أحدهم عنه في الظاهر فذلك لأنّ البحث الظاهري أسهل من البحث الباطني، فهو مادي ومجسّم، وبالتالي أكثر حسيّة وعمليّة، بينما الباطن أكثر رقّة وأصعب عمليًّا. إنّ المغرور في الظاهر غير آمن بالباطن؛ ولذلك يظهر غروره في الظاهر، ومَنْ يشعر باللا أمان بالباطن يحمي نفسه بالإعلاء من شأن نفسه في الظاهر.
هذه هي قوانين الذات التي تمت مناقشتها وتعليمها وممارستها في الدوائر المتصوّفة، وهذا لا يعني أنّها لم تكن معروفة قبل ذلك، وأنّها برزت فقط بعد موت الرسول محمد -صلّى الله عليه وسلّم- بمئتي عام، فلقد عُرفت أنواع المعرفة تلك قبل وخلال حياة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومورست دون أن تأخذ شكلا رسميًّا أو تُسمّى، مثلها كمثل أن تطبخ أكلة وتأكلها دون أن تسمّي هذه الأكلة باسم معين، وأيضا بدون الاستعانة بكتاب لوصفات الأكلات. بهذا، فالتصوف كان موجودًا أيام الرسول صلى الله عليه وسلم دون أن يُسمّي بهذا الاسم، وهذا ما يعنيه قول الإمام الجنيد: "التصوّف كان حقيقة بلا اسم"، فلم يكن علمًا موضوعيًّا كي يدرسه المستشرقون ويحلّله وينشره اللغويون. يوجد فارق كبير بين مجرد جمع الوصفات والطبخ والأكل الفعلي. الآن، يوجد -بالكاد- أي طباخ حقيقي في أي مكان، ولكن يوجد العديد من الناس الذين يجمعون الوصفات ويبدّلونها؛ كمثال: "ظهر التصوّف مرة أخرى في القرن التاسع عشر"، وهذا لا يعني أيّ شيء إذا تأمل المرء الأمر بعمق، فالتصريحات التي أبرزها التصوّف قرنين بعد موت محمد -صلى الله عليه وسلّم- سطحيّة إلا إذا اعتبرناها كخلفيّة للتاريخ السياسي في الإسلام. فبالنسبة لعقل متأمّل، يتضح أنّ أمر ظهور التصوّف للنور كان رد فعل للوضع الظاهري الظالم والجائر بسبب الحزب الحاكم الذي انحرف عن الطريق الإسلامي القويم.
وإجمالا لتعليقاتنا السابقة، نرى أنّه خلال خمسين عامًا بعد موت محمد -صلّى الله عليه وسلّم- لم نجد فقط ارتداد وضع المسلمين مرة أخرى إلى العنصريّة والإقطاع والنظام الطبقي من الذين يملكون والذين لا يملكون في العائلات العربيّة ما قبل الإسلام الأول والهيكل الاجتماعي القبلي، لكن أيضًا نرى أنّ الوضع لم يكن أسوأ من عصر ما قبل الإسلام بسبب الثقة التي أعطاها الدين الجديد للعرب، وحيث إنّ هؤلاء الناس أصبحوا هم الحكام، فقد استخدموا اسم الإسلام كواجهة صدّ للاختفاء وراءها ولتبرير أعمالهم.
بعد مضيّ مئة عام على موت محمد -صلّى الله عليه وسلّم- حدثت تغيّرات أكثر في المجتمع الإسلامي الجديد، فبدأت التعاليم الدينيّة في المساجد تأخذ شكلا تقليديًّا. في عصر الرسول، كان المسجد بسيطًا في عمارته، لم تكن توجد مآذن، فلقد قُدّمت فكرة المئذنة في مرحلة تالية، حيث إنّها وسيلة جيدة لنقل صوت الأذان لمسافة بعيدة. تدريجيًّا، أصبح المسجد ذا تصميم أكثر تعقيدًا، ومع هذه التطويرات، بدأت تعاليم الدين الإسلامي تأخذ شكلا أكثر رسميّة. بدأ الناس يتعلّمون القرآن والسنّة وأحاديث الرسول والفقه بطريقة أكثر رسميّة، وأيضا بطريقة موحّدة. إنّ ظهور المتصوّفة بعد موت محمد -صلّى الله عليه وسلّم- لم يكن لجلب أيّ تعاليم جديدة، لكن فقط من أجل الحفاظ على الروح والصورة الأصيلة للإسلام، معناه الكامل والرسالة الباطنية، الحيّة، بدلا عن مجرد التمسّك بالجوانب الشكليّة للإسلام، التي كانت قد بدأت تأخذ -في ذلك الحين- شكلا واضحًا. في الوقت الذي مات فيه محمد صلّى الله عليه وسلم، كان يوجد أناس يفهمون القرآن والسنّة وأحاديث الرسول، وكانوا يعملون بها في حياتهم، فعلوم الدين التي ظهرت بعد ذلك؛ مثل علم التوحيد وتفسير القرآن، لم تكن موجودة فعليًّا في تلك الفترة. وجنبًا إلى جنب مع ظهور هذه العلوم الدينيّة، بدأ يظهر البحث في إحياء الباطن أيضًا، فقبل ذلك لم يكونا منفصلين، وكان المسلم الحق يعيش بشكل أكثر بساطة وعفويّة.
بعد وفاة محمد -صلّى الله عليه وسلم- ببضعة قرون بدأت السلطة السياسية للمسلمين في التراجع؛ فمثلا كانت تُحيط بالأندلس -التي تم فتحها عام 756- العديد من الخلافات السياسيّة وقتها بسبب ترسيخها للحكم الوراثي، وتعدّدت الصراعات والاضطرابات في قرطبة، كما كان حكام الممالك الصغيرة يحاربون -عبر الأندلس- بعضهم بعض، وكان المسلمون يسفكون دماء المسلمين. وبالشرق، ازداد التحلل العباسي والخلاف الداخلي، فأصبح الفاطميون -الذين كانوا يحكمون مصر- أكثر، وهنا -من الناحية السياسيّة، ومن ناحية أخرى- اعتبر معظم علماء الدين أنّ القرن العاشر شهد قمّة الحركة الصوفيّة، ودائمًا ما يُشار إلى منصور الحلاج -الذي استشهد عام 923- في هذا السياق.
خلال فترة هذا الانحلال والانحدار الاجتماعي والسياسي والروحي والأخلاقي امتدت الحركة الصوفيّة بثبات، حاملة فوق كاهلها مسؤوليّة إحياء الطريق القويم للإسلام، مثلما ذكرناه وناقشناه من قبل. من هذه الزاوية، اعتبر التصوّف حركة موازية لنبوّة عيسى، الذي لم تكن رسالته هدم شريعة موسى ولكن إحياء لروح الشريعة من أجل إعادة توازنها، وكنتيجة لذلك، لم يُغيّر عيسى الشريعة الموسويّة التي كانت موجودة حينها، لكنّه أثبتها، مبيّنًا وضعها الصحيح ومعناها، وتلا ذلك تحريف من قِبَل بولس وآخرين مَمْن أنشؤوا ما يُدعى بالمسيحيّة، وهذا ما حدث في هذه الحقبة التي كنا نتكلم عنها؛ إنّ كثيرًا من المسلمين قد فقدوا بصيرتهم للوضع والمعنى الحقيقي للإسلام. وظهرت معظم كتابات المتصوّفة عن التهذيب الروحي والأخلاقي من أجل إرشاد الناس الراغبين في التوازن والصفاء ومعرفة الذات والتنوير الباطني.
إنّ واحدة من أقدم الرسائل عن التصوّف هي ما كتبه عبد الرحمن السلمي، الذي ولد عام 938بنيسابور (إيران حاليًا). كانت نيسابور في ذلك الوقت مركزًا هامًّا للعلم والتعلّم. حفظ السلمي -كتقاليد هذا الزمان- القرآن عن ظهر قلب، وتعلّم النحو وسيرة النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم وسنّته، وعلومًا دينية أخرى متعدّدة، وكانت ذاته -كأشخاص كثيرين بذلك الوقت- توّاقة للعلوم الدينيّة التقليديّة، ولقد كان مؤهلا لكي ينهل منها أكثر وأكثر؛ ولذا بدأ يسافر كثيرًا، خاصة بين مدينتي بلخ وبخارة، وكانت هذه المناطق -في ذلك الوقت- ممتلئة بالمعلّمين الروحانيّين والنّفوس اليقظة، وقد سافر السلمي غربًا، وقضى فترة مديدة من حياته في بغداد والقاهرة ومكة، وبهذا جمع حكمة الكثير من المتصوّفة الأتقياء، وصنّفهم وصنّف أقوالهم في كتابه الشهير (طبقات الصوفيّة)؛ يشمل هذا الكتاب أقدم مجموعة من سِيَر المتصوّفة الذين قابلهم أثناء رحلاته. إنّ معظم كتب المتصوّفة الذين ذكرهم في كتابه قد فُقدت تمامًا، وبناء على ذلك فوثيقة السلمي تلك شاهد تاريخي هام على ما حدث في عالم التصوّف حتى وقته، ففي هذه الوثيقة، نستطيع أن نضع أيدينا علي الوضع الذي يتعلّق به البحث عن الحقيقة وإحياء المعنى الباطني لطريق الإسلام، واستمرار الخبرة النقلية لهذه الطريقة من الحياة، خلال القرنين التاسع والعاشر.
بالإضافة إلى كتاب السلمي، هناك أعمال أخرى مهمّة عن التصوّف، فعلى سبيل المثال لا الحصر هناك (قوت القلوب) لأبي طالب المكي (ت 996)، و(الرسالة القشيريّة) لأبي قاسم القشيري (ت 1072)، و(إحياء علوم الدين) للإمام أبي حامد الغزالي (ت 1111)، ورسائل عبد القادر الجيلاني (ت 1166)، لقد أصبحت هذه الأعمال -فيما بعد- أسسًا لدراسة التصوّف، ومن ناحية أخرى أصبحت أساسًا لعلم التصوّف نفسه. في كل هذه الأعمال المهمة يوجد توازن تعليمي بين السلوك الظاهري أو الشريعة الإسلاميّة والحقيقة الباطنية للوجود. هذه الأعمال -خاصة إحياء علوم الدين- اعتبرت مرجعًا أساسيًّا لأعمال المتصوّفة لمدة طويلة، ونتيجة لذلك أصبحت تُنَمّي الخبرة النقلية للناس الذين اطلعوا عليها كقاعدة أساس لتعلّم علم التصوّف. كان هؤلاء الرجال يهدفون إلى استعادة صحوة الوعي الإنساني الذي يرجع صداه إلى -أو قد قارب- الحالة الباطنة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم. لقد كان الهدف والغرض الأسمى من التصوف حال تكوينه -كما في حالته في السنوات التالية على ذلك- السعي إلى إرجاع الصدى، أو أن يصبحوا مثل ريشة تنغيم تهتز مع نفس النغمة التي كانت لدى محمد صلّى الله عليه وسلّم.
إنّ علم التصوف دائمًا ما كان يوجّه ناحية المحاكاة وتجسيد المثالي النبويّ، حتى يتم تنوير طريقه وتحويله بنوره، في شكل من السهل فهمه عمليًّا من قبل المريد المخلص، ويمكن إنجاز ذلك -على سبيل المثال- من خلال البدء باليقين خلال المعرفة التي تحتوي على معلومات عن مغزى حياة الإنسان على هذه الأرض وقدره المكتوب خلال المعرفة النظريّة، ثم التطور إلى اليقين عبر الرؤية؛ التي تبدأ بمعرفة كيفيّة النمو للداخل -أي داخل خبرة الذات- وأخيرًا الوصول إلى اليقين عبر معاناة الواقع، وهي المعرفة عبر ذاتك نفسها، عبر كينونتك الأولى التي تمّ تنشيطها.